“بابا الإصلاح” وتشريح لبنان المنهار

لم تكن زيارة البابا لاوون الرابع عشر إلى لبنان، في هذه الفترة، مجرد محطة روحية ضمن أولى جولاته الرسولية. لقد كانت تدخلاً فاتيكانياً مباشراً وحاداً في أزمة بلد يصارع من أجل بقائه. البابا، بخطابه الصريح والبراغماتي، تجاوز الطقوس ليقدّم تشريحاً نقدياً لواقع الانهيار، مُبرزاً التناقض الصارخ بين الرمزية الدينية والمأساة السياسية.

منذ اللحظات الأولى لوصوله إلى مطار رفيق الحريري، اصطدم البابا بمنطقين متناقضين: منطق البروتوكول الفخم، ومنطق الانهيار الاقتصادي. الترحيب الرسمي المبالغ فيه بالطبول والرقصات تحت المطر كان محاولة لتغليف الفشل السياسي بالفخامة أمام عدسات العالم.

في القصر الجمهوري، ألقى البابا رسالته الأكثر حدّة للقيادات: “أنتم شعب لا يستسلم… لكنكم دفعتم ثمن الفساد وسوء الإدارة والانقسامات.” وتوّج خطابه بـ“تطويبة” خاصة لأصحاب القرار: “لكم تطويبة خاصة إن استطعتم أن تقدّموا هدف السلام على كل ما عداه.”
هذه التطويبة لم تكن مدحاً، بل كانت إدانة أخلاقية صريحة. هي إشارة واضحة إلى أن القادة اللبنانيين لا يضعون السلام في قمة أولوياتهم، بل يفضّلون المصالح الضيقة، وهم بحاجة إلى ثورة أخلاقية حقيقية للتخلّي عن “عادة الانقسام القاتلة.”

وشكّل اليوم الثاني جولة روحية شملت عنايا، بكركي، وحريصا، لكن رسائلها كانت موجّهة مباشرة إلى مستقبل لبنان المهدَّد. من بكركي، دعا البابا الشباب إلى الصمود، قائلاً: “الهروب أحياناً يبدو الخيار الأسهل، لكن الشجاعة الحقيقية هي في الصمود، وفي العودة لمن يستطيع.” هذه الدعوة اعتراف ضمني بقلق الفاتيكان الوجودي من نزيف الهجرة الذي يهدد هوية لبنان التعددية، ويؤكد أن البقاء أصبح فعلاً بطولياً وليس حقاً طبيعياً توفره الدولة.

ومن حريصا، شدد البابا على أن “المحبة أقوى من الانقسام، لكن الانقسام أصبح عادة سياسية قاتلة.” هنا يشخّص حالة الانقسام كمرض مزمن لدى الطبقة السياسية. ورغم تقديمه “الوردة الذهبية” ووضع حجر أساس “مدينة السلام”، يبقى هذا الدعم الرمزي عاجزاً أمام الحاجة إلى تدخل سياسي واقتصادي فعّال لانتشال البلد.

اختتم البابا زيارته بأكثر اللحظات إدانة للواقع اللبناني، حيث كانت الصلاة الصامتة والمؤثرة في موقع انفجار مرفأ بيروت. كان صمت البابا صرخة إدانة دولية لعرقلة التحقيق وفشل المنظومة القضائية والسياسية في تحقيق العدالة لضحايا أكبر جريمة في تاريخ لبنان الحديث.

وفي عظة القدّاس على الواجهة البحرية، أكد البابا أن الجراح لن تندمل “إلا إذا عملنا على شفاء الذاكرة والتقارب بين من تعرضوا للإساءة والظلم.” هنا يربط السلام بالعدالة المفقودة، مؤكداً أن الفساد السياسي هو أصل كل العلل.

قبل إقلاعه إلى روما، قدّم البابا خلاصة قاسية لتشخيصه لواقع البلد بجملة فاصلة: “الناس صامدون… والدولة هي التي تتركهم يسقطون.” هذا حكم قاطع يفصل بين الشعب اللبناني الصامد والمنظومة الحاكمة الفاسدة التي تسببت في سقوطه.

لكن المأساة لم تنتهِ بانتهاء الزيارة. ففور مغادرة طائرة البابا الأجواء اللبنانية، سارعت إسرائيل إلى إرسال رسالتها العسكرية المعتادة بتحليق مسيّرة فوق الضاحية. هذا الفعل لم يكن مجرد خرق للسيادة، بل كان ازدراءً متعمداً لنداءات البابا للسلام، وتأكيداً على أن لغة القوة العسكرية الإقليمية هي المهيمنة على حساب أي اعتبار دبلوماسي أو إنساني. لقد محا تحليق المسيّرة أصداء السلام البابوي، مؤكداً أن الهدوء وإن كان مؤقتاً بوجود شخصية روحية، يبقى استثناءً لا قاعدة.
كانت زيارة البابا لاوون الرابع عشر تذكيراً صارخاً بأن “لبنان الرسالة” لا يمكن أن يبقى على قيد الحياة دون قرار سياسي وطني جريء يضع العدل والوطن فوق المصالح. غادر البابا حاملاً رسالة أمل، لكنه ترك خلفه منظومة سياسية مُدانة ومحاصرة بين فساد داخلي وتهديد خارجي.